الثلاثاء، 13 يوليو 2010

مشهد من جنازة العلامة الفقيد

منذ فجر التاريخ ورجال الدين يخوضون حرباً ضروساً ؛ لاستلاب وعي الجماهير وامتطاء صهوة السلطة. حاخامات اليهود تلاعبوا بالجماهير والحكام عبر كتابة " التلموذ" بأجزائه الستة واحتكروا تأويل التوراة من خلاله - وخلالهم – ليسيطروا على العقول ويهيمنوا على المشهد. ولما ظهر المسيح ، الذي لطالما بشروا بمعية التوراة بظهوره كذبوه وحاربوه بضراوة - وهم رجال الله الذين يعرفون قيمته وثقله- خوفاً على أموالهم ومواقعهم الاجتماعية والدينية فتآمروا عليه ونكلوا به وصلبوه " أو هكذا ظنوا"..
ولأن التاريخ يعيد قوالبه ونماذجه استخدم رجال الكنيسة الحربة ذاتها في الهيمنة على المشهد، وتاريخ الكنسية الأسود على مر ألف عام يشهد بالإرهاب الفكري الذي مارسه هؤلاء على كل من تجرأ على مناقضة مسلمات الكنسية ، وكيف تمت تصفيتهم بتهم الهرطقة والسحر والكفر والجاسوسية عبر غليهم في الماء أو صلبهم وتجويعهم حتى الموت. في عصرنا هذا لم يعد أيٌّ مما سلف ممكناً.. لغة العصر وناموسه وديدنه فرضوا أن يكون اغتيال المعارضين معنوياً ، وتكون تصفيتهم عبر الطعن في مصداقيتهم ورجاحتهم ورشدهم..
الفكر القمعي لرجال الدين بقى؛ ومحاولاتهم لتركيع الوعي الجمعي استمرت – إنما- بأشكال أخرى أكثر عصرية ولم يمنع هذا استخدام القنابل والأحزمة الناسفة والرصاص أحياناً..
ما نحياه من صراع مأزوم مع ذواتنا وبعضنا وتقطع أوصال دولنا لدويلات وجماعتنا لجماعات لم يأت من فراغ.. بل من حكام متسلطين ورجال دين متواطئين متآمرين، سواء أولئك الذين يرفضون نقد وتقويم ولاة الأمر ويحظون على طاعتهم بالمطلق تحت عنوان "طاعة الأمر" – أو- أولئك الذين يمنحون توكيلاً نافذا مطلقاً لرجال الدين تحت عنوان " ولاية الفقيه".
*****
لماذا كرهوا السيد فضل الله ؟
تسألون ..
لماذا تجاهلت قنوات فضائية شيعية " كقناة الأنوار، قناة أهل البيت و قناة المودة و قناة الزهراء و قناة المعارف وقناة كربلاء وغيرهم " نبأ وفاته تماماً في حين بروزته القنوات العالمية الكبيرة باعتباره حدثاً جللاً ؟! ولماذا أفتى كبار المرجعيات بحرمة تقليده وتأثيم أفكاره وشككوا في عقيدته وفكره؟ ولماذا أُسست مواقع الكترونية لرميه بالضلال - وبالكفر أحيانا ً ؟
الجواب مدفون تحت الحائط الذي يكاد أن ينقض..
عندما طفت نظرية " ولاية الفقيه" وفُرضت كجزء أساسي من العقيدة بقوة التقديس الأعمى مروجاً لأنّ حكم الفقيه نافذٌ على الجميع ومقدمٌ على حكم الدول والحكومات في محاولة لإلحاق ملايين الشيعة العرب بنظام الحكم في طهران.. لم يجرؤ أحد في البدء على التصدي لها حتى فعل السيد فضل الله الذي أعلن بجرأة رفضه لها ولكل طرحٍ يقدم الرابطة المذهبية على الرابطة القومية، وقد استنطق موقفه التاريخي ذاك باقي المرجعيات العربية التي ألتفت حوله محاربةً تحريك العصبية المذهبية وتهجير المرجعية لإيران.
وقد حصل ما هو متوقع، فقد تعرض المرجع الكبير وأشياعه للاضطهاد بسبب موقفه ذاك.. وأُسقط وهُوجم وتم التعدي عليه كما لم يتم التعدي على مرجع شيعي قبله، ولكن تلك الحرب لم تغير حقيقة أن موقفه قد دّعم – ووسع- قناعات ملايين الشيعة العرب " سيما الشباب والمثقفين" الذين أزعجتهم هذه النظرية الراديكالية التي زعزعت الثقة بهم وصعبت حياتهم ،ودقت إسفين الشك بينهم وبين حكوماتهم وجرتهم لأتون مواجهات جوفاء لا طائل منها .
وقد جاءت كل مواقفه وفتاويه متسقة مع نهجه التقريبي والمعتدل :
فأفتى وأفتى باعتماد الفلك في تحديد العيد، و باعتماد أذان الدولة في رمضان ،وعدم انتظار غياب "الحمرة المشرقية" ( وهي مؤشر الغروب عند الشيعة والتي تؤخر الأذان بحوالي 10 دقائق عن الأذان الرسمي)، كما وحارب كل ما من شأنه أن يوجد شرخاً بين المسلمين أو يؤجج الفتنة بينهم : فحرم - وبشدة- كلَّ التعديات المارقة على الصحابة والسيدة عائشة، و نادى بالاعتدال في إيحاء عاشوراء رافضاً المظاهر المغالية التي تشوه صورة المذهب والإسلام، وأكد - مراراً- أن مساحة الالتقاء فقهياً بين أبناء المذهبين تعدو الـ80% .
كان سماحتهُ – باختصار- يرى أن مقاصد الشريعة لا تتحقق إلا بالاندماج بين المسلمين، وأن على الأمة أن تتوحد في العبادة وإن اختلفت في السياسة،وإن افتعال واختلاق الصراع لا يزيد الدين والأمة إلا وهناً، فلا عجب أن نعاه المحبون من كافة الطوائف والأديان والأحزاب. ففكره القويم جعله أيقونة بالنسبة للبعض – تماماً- كما جعله شوكةً في خاصرة ذوي الاتجاهات التقليدية ‏النقلية المتشددة المتصارعة مع العصر والغارقة في إلغاء ومماحكة الآخر .
لقد رحل السيد فضل الله تاركاً وراءه إرثاً عظيماً..
أرث فكري يرى أن جراد العصبية والمذهبية هو الأخطر على أغصان الأمة. أرثٌ يرى أن اندماج الشيعة في أوطانهم ليس بخيار بل حتمية تنهار بغيابها الأمة وتتشتت.
رحم الله المرجع الكبير..ونسأل الله أن يتفضل علينا بمرجعيات عدة ترثه وتحمل فكره العقلاني المستنير.