الأربعاء، 13 أكتوبر 2010


إني أتجول بين عالمين ، أحدهما ميت والآخر عاجز عن أن يولد॥ وليس هناك مكان حتى الآن أريح رأسي
نيلسون مانديلا
يوميا؛ أستيقظ على اختراق أصوات المروحيات العمودية لصمت نافذتي فأشعر بأني في " كابول"..!
مع قدح الصباح أتصفح الجرائد لأرى الأحادية في أصرخ أشكالها : قافلة مقالات ذات موقف واحد ، ورؤيةً واحدة ومنطق واحد - لا فرق بينهم إلا في زخرف الكلم - حتى أني لأشتهي أحياناً أن أقترح عليهم أن يكفوا أنفسهم العناء و" يتحاططوا" في كتابة مقال واحد توفيرا للوقت والجهد والأعصاب !!
تمرُّ بالتصريحات فترى تغول لغة التحذيرات والتهديدات التي لم نعهدها قبلاً.. تسمع بين السطور صدىً يردد " نحن الوطن، ومخالفتنا خروج عن الوطنية " فتقطب حاجبيك في صمت.. تتنزه بين الصفحات فتدهشك بيانات متراصّة لشخصيات وجمعيات خرجت من العدم وتكاثرت بشيطانية في الأزمات تتحدث بلسان الوطن ، وتختزل الوطن في ذاتها ومصالحها ، تمنح صكوك الوطنية لهذا وتصادر وطنية ذاك بخفةً لا تُغتفر.. !
تخرج من خدّرك للشوارع فتجدها تزدحم بصور مرشحين لا تملك إلا أن تتساءل من هؤلاء.. ومن أين جاؤوا..؟ متى تعاطوا الشأن السياسي ؟ ومتى تمرسوا على العمل العام ؟ وما هو خطهم الوطني وما هي امتداداتهم الفكرية ؟ هل نام هؤلاء ليلاً واستيقظوا بقناعة أنهم يصلحون لمسئولية بجلال تمثيل الشعب وصياغة مستقبله !! أم أن مهمة البرلماني تبدو من التفاهة والسهولة بمكان شجع المتقاعدين والمتعطشين للمال والنفوذ والشهرة لتزكية أنفسهم لها !!
حال البلد لا يسر، هكذا باختصار، وهوامش الحرية التي نعمنا بها على مدار السنوات العشر الماضية تقلصت بشكل مقلق، وصارت الساحة خالية إلا من لاعب أوحد.. القوى الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني انكمشت هي أيضا وصارت تمشى قرب الحائط وتطلب " الستر"، فسحب تراخيص جمعياتً والتهديد بمقاضاة أخرى ومنع نشرات وغيرها من الإجراءات القارقوشية جعلت الكل "مؤدباً وطيعاً ".. ليس هناك حراك ولا اعتصامات مرخصة ولا لقاءات عامة والصحف ، التي يفترض أن تكون متنفسا يوميا للشعب ، مكممةُ وتتعالى عن الحديث بلسان المواطن البسيط لأنها مشغولةٌ بوعظه وتعليمه كيف يفكر وكيف يشعر ! اجتماعيا هناك احتقان غير مسبوق .. الناس غير سعيدة.. منزعجةٌ ومتوثبةٌ وقلقة من المستقبل وارتدادات الأمس ولكنهم ملزمون بإما الصمت أو التهليل لأنها اللغة الوحيدة المقبولة اليوم.. يخاف الناس أن يتكلموا عن لقمة العيش والغلاء والتوزيع العادل للثروات والعدالة والتجنيس السياسي خشية أن يوصموا بالإرهاب.. فصدر السلطة ضيق الآن ولا أحد يريد استمطار العقاب .
.. وحدهم أخوة يوسف الذين جاءوا لأبيهم عشاً يبكون هم " المنتعشون" اليوم وتعرفهم من لحن القول.. فخنق الديمقراطية و"إزهار" المؤسسات البوليسية والتضييق على الحريات وشنق التعددية هو غايةٌ عريضة وحققوها.. فبذور الشك والفتنة التي زرعوها أينعت أخيرا وأتت قطافها..والوقت الآن مثالي للتنفع والحركات البهلوانية واستلاب المكاسب الشخصية..
***
غرّة رمضان، عندما بدأت الحملة الأمنية لم نندهش حقا.. فمن تصرفوا بطيش ونزق طوال هذه السنوات وأمعنوا في الاستفزاز واعتبروا كل من حذرهم من مغبة أفعالهم المرتجلة خائناً وعميلاً؛ كانوا يعرفون أن يوماً ما سيأتي وسيسدل الستار؛ أخبرهم الجميع بذلك. ولكن ما أدهشنا حقاً، هو أن عقال العقاب قد أنفلت ليطال الجميع ويجبرهم على دفع " فاتورة " أعمالً لم يصادقوا عليها يوما ولم يشاركوا فيها ولم يقبلوها..!!
أيعقل أن يؤدي كشف مخطط إرهابي - كما يحلو للدولة أن تُسميه- إلى العودة بنا لعقد مضى ولتقليص سقف الحريات ولتحريم الجدل في القضايا الوطنية ولتكبيل مؤسسات المجتمع المدني ولترهيب المعارضين وللتراجع عن المناخ الديمقراطي التعددي الذي لطالما افتخرت به البلاد !!
هل ديمقراطيتنا بهذه الهشاشة بحيث تهتز من القواعد لمجرد أن مجموعة مرقت أو تطرفت في أطروحاتها أو أساليبها ؟ ما الداعي ، بعد تقويض شغب الشوارع والسيطرة عليه ، لكل هذه الإجراءات القصوى التي تظهر البلاد وكأنها في حرب وتشّل الحراك أزمة عصيبة وتعيد تأثيث المشهد البحريني استجابة لهاجس أمنى ظرفي !!
إن التحدي أمام البحرين اليوم يتمثل في أن تثبت لنفسها ، قبل أن تثبت للعالم ، أن ديمقراطيتها حقيقية وليست مصنوعة من قطع دومينو تتداعى إن تحركت فيها قطعة. ديمقراطية مبنية على مبادئ وقناعات راسخةً لا تهزها العثرات ولا تغيرها مواقف.. وعلى السلطة أن تعض بالنواجذ على ما حققته من خطوات في طريق تمكين الشعب وإنضاج التجربة الديمقراطية التي – نعم- تأتي بكثير من المنغصات والانتقادات على المؤسسات الحاكمة في الدول الديمقراطية ، ولكنها في النهاية السبيل الأوحد لإدارة وتنمية الدولة في عالم اليوم.
نتمنى من السلطة في البلاد أن لا تحيد عن دربها بسبب مطب.. ولا تغير قناعاتها وتتخلى عن شعاراتها ولا ترّكن لدجل المنافقين وتحملق في وجوه الناس الطيبة وتسأل: هل الشعب سعيد فعلاً أم يتصنع البسمة ؟
نشبك أصابعنا ونأمل أن تكون هذه المحنة وآلامها مخاض ولادة لديمقراطية حقيقية .. لا سكرات موت ديمقراطية وليدة .. والله - وحدة- من وراء القصد